الأحد 16 ديسمبر 2018
“العاصفة” لخالد يوسف:
روعة السرد السينمائي العميق في ثلاثة خطوط درامية متداخلة و متوازية!
بعد ثلاثة عقود نفس التمزق وقصص الفساد وتزييف التاريخ والاستقطاب وتغييب كلي لارادة المواطن العربي…
*يتناول فيلم “العاصفة” حالة التمزق والتشرذم التي سادت الوضع العربي ابان حرب الخليج الاولى (وما زالت)، من خلال قصة حياة اسرة مصرية عادية تعاني من المشاكل المالية الحادة، حيث أن راتب الام (يسرا) التي تعمل كمدرسة، وراتب الأب (محمود عبد الله) المقاتل المعاق الذي فقد ساقه في حرب اكتوبر1973، لا يكفيان ابدا لسد المستلزمات الحياتية ولا لبناء المستقبل.
*فيقرر الابن البكر الهاوي للغناء (محمد نجاتي)، وبعد ان خسر حبيبته وأصبح عاطلا عن العمل اثر تخرجه، لذا فهو يسعى للسفر للعراق لتحسين وضعه ووضع عائلته الحياتي المالي، وحتى يضمن ديمومة استمرار علاقة شقيقه الملحن المبتدىء الشغوف (هاني سلامة) بالجميلة حياة (حنان الترك)، التي هي ابنة احد اثرياء عهد الانفتاح الجدد (سامي العدل)…
*تسير أحداث الفيلم وفق ثلاثة خطوط درامية مدروسة بعناية، فيقوم المخرج البارع بتعرية “التزييف الاعلامي” من خلال تشويه عمل المذيعة الميدانية الشابة (حياة)، ثم يتطرق لكشف الفساد السافر والمستتر،عندما يستغل والدها المتغول نفوذه لابعاد حبيبها بارساله مع القوات المصرية للمشاركة في عاصفة الصحراء بتسعينات القرن المنصرم، كما يتطرق المخرج النبيه لثيمات: تزييف التاريخ ورداءة المناهج الدراسية التي تعتمد على الاجترار والتلقين وتعطيل التفكير المنطقي لدى جيل بأكمله، ويقدم مجازا الرؤيا السياسية والمستقبلية البديلة، مركزا على وحدة المصير العربي، ولا ينسى ان يشير لنضج تجربة العلاقة بين “يسرا وهشام سليم” بشكل موازمدمج ومتماسك ومشوق.
*ثم يعرض في الخط الدرامي الثالث: الرغبة الجارفة للاغتناء السريع لدى الابن البكر المهاجر حتى يعود للوطن، مما يدفعه الى التطوع في الجيش العراقي ليعمل في مجال الخدمات الادارية-المدنية الضرورية، ثم ليجد نفسه متورطا باحتلال الكويت، ولكنه يتهرب من القتال، ناجيا بنفسه…
*ولكن ظروف القتال الحتمية الواقعية تجبره على تبادل اطلاق نيران المدافع في مواجهة شقيقه على الجبهة الاخرى، وينجح المخرج بتصوير قمة “المشهد الميلودرامي المؤثر” عندما نرى الدموع تملأ عيني كل منهما، كدلالة عملية ورمزية على تغييب الاردة العربية الجامعة من كلا الطرفين، يتمظهر في هذه المشاهد الختامية بؤس حالة التمزق العربي التي ما زالت سائدة حاليا للأسف وربما أشد حدة ومغالاة بعد مضي حوالي الثلاثة عقود على عاصفة الصحراء، التي أعلنها “بوش الأب” (الذي توفي مؤخرا عن 94 عاما) على العراق لاخراجه من الكويت بهذا الشكل المهين “الانهزامي المتآمر”، ويقال أن الجيش الأمريكي المنتصر حينها قد استهدف القوات العراقية المنسحبة في الجنوب، ودمرها عن بكرة أبيها في استخفاف واضح لقوانين الاستسلام الدولية التي لا تسمح بالتنكيل بالجوش المنهزمة والمستسلمة!
*في المشاهد الختامية اللافتة، نرى مظاهرة شعبية وطلابية كبيرة أمام جامعة القاهرة، ترفض شعاراتها هذه الحرب اللعينة التي قسمت الامة العربية وقتها، كما تدين التدخل الأمريكي العدواني الغاشم في المنطقة العربية، ويتم اختتام الفيلم المميز هذا باحراق العلمين الأمريكي والاسرائيلي معا.
*وبمراعاة وتحليل الوضع العربي الراهن حاليا، ألا نرى التاريخ يعيد نفسه بصورة سيئة؟ حيث الانقسام العربي “الحالي” في أوج حالاته وأسوأ ربما بالنظر لحالات الاستقطاب المحوري والانقسام الفلسطيني والتطبيع السافر مع دولة الاحتلال الصهيوني، ونسمع “النتن” الاسرائيلي يتباهى متبجحا بعلاقاته السرية والعلنية مع الدول العربية، وحيث دعم “ترامب” المطلق لاسرائيل ونقله السفارة للقدس، ولكن مع انعدام احتجاجات الشارع العربية والمظاهرات الشعبية هذه المرة، وكأن هموم الشعوب قد انصبت على توفير لقمة العيش وكشف الفاسدين المتغولين وبدا وكأنها قد فقدت “بوصلتها” وحماسها القومي والوطني المطلوب تجاه الأحداث الخطيرة التي تعصف بمنطقتنا العربية بعد خيبة الربيع العربي وتحوله لآلة دمار “ممنهج/كارثي” للكيانات العربية القائمة والقصة معروفة ويطول سردها… وربما يستدعي ذلك من المخرج الحساس البارع “خالد يوسف” أن يبادر بوضع سيناريو فيلم جديد يلتقط فيه هذه المآسي والتداعيات والخيبات باسلوبه السينمائي الجذاب المؤثر، ونحن بانتظار ذلك!
مهند النابلسي / كاتب وباحث وناقد سينمائي