حمدين صباحى..النضوج على نار الاستبداد

الجمعة 18-05-2012 23:21

فى العام 1997 قرر النظام البائد تنفيذ آخر حلقات التخلص مما أنجزته ثورة 23 يوليو عن طريق إصداره قانون العلاقة بين المالك والمستأجر، والذى كان يعنى إرجاع الفدادين الخمسة التى حصل عليها الفلاحون إثر قانون الإصلاح الزراعى، وبهذا الإنجاز العظيم لهذا النظام الفاسد المرتد على مكاسب الفلاحين استطاع أن يعود بفلاحو مصر إلى عصور الحفاء، ولست مبالغاً حينما أقول الحفاء.. ففلاحو مصر عبر قرون عديدة لم يكن لديهم رفاهية ارتداء حذاء حتى جاءت ثورة 23 يوليو فتغيرت أحلامهم بعد أن كان أقصى طموح للفلاح المصرى ارتداء حذاء.. أصبح حلمه أن يصبح ابنه رئيساً للجمهورية، فازدادت أسماء الأبناء من على شاكلة جمال وناصر وخالد وحكيم وغيرهم من أعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو، وبعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر وبداية الجمهورية الثانية برئاسة السادات الذى مشى على نفس خط عبدالناصر ولكن للوراء ماسحاً بأستيكة كل ما أنجزته الجمهورية الأولى بقيادة عبدالناصر واستكمل هذه الجمهورية الرئيس مبارك وأكمل السير فى نفس خط السادات وأجهز على البقية الباقية، حتى جاءت نهاية الألفية الثانية وقبل وصولنا للعام 2000 كانت قد تبخرت كل مكتسبات العمال والفلاحين والطبقة الوسطى.

وأثناء انتشاء النظام بالإعلان عن الخلاص من كل أثر لثورة يوليو بهذا القانون الظالم.. انتفض رجل من رجالات مصر العظام وهو ابن الفلاح المصرى الأصيل الحاج عبدالعاطى صباحى وقرر أن يجوب قرى مصر من صعيدها لدلتاها، لحث الفلاحين على مقاومة تنفيذ القانون الجائر وعدم تسليم أراضيهم.. وتمكن من أن يجوب أربعة آلاف قرية فى ثلاثة شهور وتكوين جبهة للمقاومة علقت الرايات السوداء على كل منازل وغيطان هذه القرى، استعداداً للمواجهة مع النظام الذى أدرك أنه لن يستطيع انتزاع الأرض من الفلاحين إلا بتغيب ابن الحاج عبدالعاطى صباحى بأى طريقة.. ودارت المناقشات بين جنبات هذه العصابة منهم قائل حادث سيارة تقضى على حياته قضاء وقدراً، إلى قائل تلفيق تهمة أخلاقية له مثل دس مخدرات فى سيارته إلى آخر هذه الحيل الشيطانية، واستقر الأمر لأشجع هذه الآراء الذى قال إن ما نفعله هو فى صالح البلاد والعباد ولا يصح أن نتوارى خجلاً منه فلابد من اعتقال حمدين صباحى جهاراً نهاراً وتوجيه تهم ليس أولاها التحريض لقلب نظام الحكم وليس آخرها مقاومة السلطات والتحريض على تكدير السلم العام.. وبالفعل تم اعتقاله وسجنه لأكثر من أربعة شهور حتى يتمكنوا من كسر ضهر الفلاحين وإرغامهم على تسليم أراضيهم، وكان يوماً حزيناً ذلك اليوم الذى تلقيت فيه خبر هذا الاعتقال وما زاد من شجونى أن ذلك الرجل النبيل قد تعرض للإهانة والإيذاء البدنى والتعذيب، وإمعاناً فى إهانته قاموا بحلق شعره (زيرو) كسجناء القرون الوسطى.. وكنت وقتها قد عزفت عن كتابة الشعر منذ أكثر من عشر سنوات إثر نصيحة قالها لى الشاعر الكبير نزار قبانى عندما قرأ قصيدة لى أعجب بها كثيراً وقال إننى سأصبح يوماً ما واحداً من كبار شعراء العربية ولكنه أردف قائلاً إذا كنت ذلك الشخص الذى تشرحه لى من اهتمامك بالهم العام والتواصل مع الجماهير والتأثير فيهم فإن لغتك الشعرية فى منتهى الصعوبة ولن تصل لهم، فالزمن ليس زمن الشعر.. وقال لى إن أردت أن تصل للناس فهذا الشعر لن يستطيع أن يكون الحامل (وقالها بالإنجليزيةcarier) الجيد لهذه الأفكار وكان ذلك فى نهاية الثمانينيات ومن وقتها عزفت عن كتابة الشعر وقررت أن أجد الحامل الذى ينقل أفكارى للناس وكان لمشيئة ربانية ولإصرار من أستاذى يوسف شاهين أن يكون ذلك الحامل هو السينما.. ولكنى عندما اعتقل حمدين صباحى لم أكن بعد مخرجاً سينمائياً فوجدت نفسى ودون أن تكون لى إرادة أعود لزمن الشعر وكتبت قصيدة لحمدين وحاولت أن تصله فى محبسه ولم أفلح.. وعندما خرج وذهبت لاستقباله كنت قد نسيت أمر هذه القصيدة ولكن ما نظرت فى عينيه ورأيت نظرة الصامد والصابر والواثق من النصر حتى تذكرت أمر هذه القصيدة ولم أجد كلمات غير أننى قلت له بهمس كتبت لك قصيدة فعبر لى عن فرحته بعودتى لزمن الشعر، وعندما التقينا ليلاً كنت قد أحضرتها مكتوبة له وقرأتها وكتبت له إهداء فيها على ما أذكر «قد تكون هذه الكلمات أقل من أن تنقل لك ما شعرت به وأنت فى محبسك وقد تكون بعض كلماتها أكبر منك فإن كانت أقل فلتسامح لغتى.. وإن كانت أكبر فعذرى تلك اللحظه المليئة والمشحونة بالعواطف وبالشجون.. وأتمنى أن تثبت الأيام أنك كنت على مستوى هذه الكلمات إن رأيتها أكبر منك».. هذا ما قلته.. وأضع القصيدة ولأول مرة بين يدى القارئ كى يقرر إن كانت أقل من قيمة حمدين أم أثبتت الأيام أنه كان على مستواها وأكثر.. ولن أصادر عليك عزيزى القارئ إن قلت إن الخمسة عشر عاماً التى تفصلنا عن هذه اللحظة قد أثبتت لى على الأقل أنه كان على مستواها ولم يخذلنا فى موقف ولم يتوان فى لحظة كانت تستلزم الإقدام والفداء، وكان نموذجاً للثورى الشريف، رأيته دائماً نبعاً لا ينبض وبحراً لا يهدأ وتفاحة تميل إلى الاحمرار كلما واجهت خرافات العصور السابقة.. وإليك القصيدة:

«عاشق السنا»

هنا كان يخطو مارد جارح الخطى

وفى موكب ماجت به رعشة الوجل

تداجيه أنفاس العبيد وتنحنى

جباه الضحايا بين إطراقة المقل

وفى جانبٍ عاتٍ تزمجر زارة

فتعول صلبان المجازر بالشلل

فيخبو الحداء المستنير وترتمى

أغاريده النشوى على مذبح الأمل

عذابات أيام الأسى أطفئت

من العيون مواويلا للضياء تبتهل

لكم ردد الموال بشرى نبوة

تقلم أظفار الدجى عندما تصل

وجاء الخلاص البر يحكى نبيه

أساطير طوفان إلى الشمس ترتحل

يصب اليقين العذب فى كل زحفةٍ

وهم فى أسى والليل مازال ينسدل

وكنت حواريا بعثت مبشرا

بوحى النبى القدس فى غابة الدجل

فكم عابث بالنور أضرى انتقامه

وكم هازئ بالبعث قام ليقتتل

وكل الخفافيش الحيارى تواثبت

ترد الهجوم الفجر بالأصبع الأشل

قصارى الذى قاموا به فى جنونهم

زنانين حقد ألهبت مشعل البطل

فعادت إلى الأذهان ألف حكاية

ملوثة السيقان بالعار والوحل

وما كانت الوديان تسخو إذا جرت

على أرضنا أسطورة الذئب والحمل

عشقت ألسنا يا فارسى فغرسته

على وجنة الأطفال يرفل كالقبل

وما كانت الأطفال تولد لو ترى

نهادا من الأشواك والمر قد جدل

فسقت الدم المهراق يهزج فى الثرى

يعيد إلى الغابات عصفورة الغزل

وطيفك رفاف يفيض على القرى

بيادر صحو للسنا أينما نزل

فعش هانئا فالطفل يحضن عمره

مواويل عطر فى المجامر تشتعل

وكوكبة الأفراح شقت طريقها

تهدهد مخضل البراعم فى جذل

على خطوها تنمو المصابيح ثرة

وقصة جلاد تغور على عجل

إلى هوة الموتى بثور تقوقعت

حكايا يغنيها الذى يضرب المثل

Almasryalyoum