كنا رجالة .. بقلم: المخرج السينمائى خالد يوسف – جريدة الأهرام
من فينا لم يتربى على”كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة” مقولة حسن فؤاد والتى نطق بها العظيم محمود المليجى فى تحفة يوسف شاهين الخالدة”الأرض”..؟ لم أكن أتخيل وأنا فى صباى وأشاهد تلك اللقطة وأستمع لهذه الكلمات أنها ستكون فيما بعد هى المشهد الأهم والأعظم تأثيراً فى حياتى..
وكي لا أطيل فى المقدمات سأروى ما حدث.. كنت طالباً بالسنة الثالثة بكلية الهندسة وإبتدأ العام الدراسى بمعركة إنتخابية شرسة بين التيار الناصرى وكنت أحد قياداته الطلابيةوبين التيار الدينى وأسفرت عن فوزى برئاسة إتحاد الجامعة..
وكان علينا-وقد واتتنا الفرصة- أن ندحض كل الأفكار المتخلفة والظلامية التى كرس لها التيار الدينى عبر سنوات سابقة كان فيها هو الفائز برئاسة الإتحادات الطلابية وكان أول ما فكرنا فيه هو الإستعانة بكتائب ومدفعية وصواريخ هذا الوطن من أدباء ومفكرين وفنانين ينشرون النور يحاربون خفافيش الظلام..
وكان على رأس هؤلاء المخرج السينمائى”يوسف شاهين”.. فذهبت إلى مكتبه برفقة صديق”عادل لطفى” كان له معرفة سابقة بالمخرج يسرى نصر الله وكان يسرى وقتها مساعداً لشاهين ولكم كان مدهشاً لى أن يلبى طلبى فى غضون دقائق قليلة وأجد نفسى وجهاً لوجه أمام شاهين بشحمه ولحمه..!
ويأخذنى التأمل لبضع ثوانى وهو يسلم علىّ وأدقق فى عينيه لأجد عينا “قناوى” فى باب الحديد بكل هوسها وجنونها وتطرفها ويستمر هذا اللقاء زهاء النصف ساعة وتواتينى الفرصة أكثر لمزيد من التأمل فى عينى شاهين لأقرأ أبجديات الحزن المستقر والمقيم فى داخل هذين العينين ولأجد تفسيراً لها بعد سنين طويلة تربو على العشرين من ملازمتى له تلميذاً وإبناً وصديقاً لا مجال الآن للغوص بها..ويوافق شاهين على لقاءه مع طلاب الجامعة وعرض فيلمه العصفور..
وخرجت من لقائى بالأستاذ وتعتمل بداخلى مئات بل آلاف الأسئلة..ما هذا الساحر الذى ما أن تلقاه لا يمكنك أن تشرد أو تسرح بعيداً عنه وعن عالمه..؟!..
ما هذه النظرات الأخاذة التى يطلقها من حين لآخر فيخترقك ويكشف ما بداخلك بكل سهولة ويسر..؟!.. ما هذه الرقة والعذوبة والإنسانية والتواضع التى يتحدث بها مع طالبين من الجامعة كان هذا أول لقاء له بهما..؟!
ما هذه الدهشة الساكنة أعماقه والتى تحيل ملامح وجهه إلى ملامح طفل مندهش دائماً برغم الصرامة والجدية الشديدة التى تقفز من عينيه..؟! أزعم أن الأسئلة التى سألتها لنفسى أو لصديقى عن هذا الرجل؛أزعم أن لدى الآن الكثير من الإجابات عليها..
ولكن أيضاً ليس هذه هو المجال للحديث عنها.. ولكن ما أريد أن أحكيه اليوم هو ذلك الذى حدث يوم مجيئ الأستاذ للجامعة فقد رأت إدارة الجامعة والجهات الأمنية المنسقة معها أن هذا اللقاء قد يكون خطيراً وفى أقل التوقعات لقاءاً ليس مستحباً ولا يخدم أى من أهدافهم فقد كان شاهين فى ذلك الوقت ممنوع من دخول الجامعات ومعه زمرة من المفكرين والشعراء والأدباء وكان منطقهم أن نجاح حفنة من الطلاب أمثالنا فى الإنتخابات ليس معناه أن نفرض عليهم دخول هؤلاء الغير مستحب سماع كلامهم لطلاب فى عمر الفوران ..
لذا فقد قررت الجامعة منع هذا اللقاء وأبلغونى به مساء اليوم السابق للقاء حاولت الإتصال بالأستاذ فى ذلك اليوم ولم أوفق..فما كان علىّ إلا الذهاب لمكتبه فى الصباح الباكر للقاءه لإبلاغه بما حدث..فما كان عليه إلا أن سألنى”عندك رجالة”..؟
..فبدت على وجهى علامات البلادة و اللافهم.. فاستطرد: “عندك رجالة يقدروا يقفوا وقفة رجالة..؟” قلت له نعم..قال”إذن أنا سأحضر معك”..فقلت له “والإدارة والأمن..؟!”..فقال “أنا تلقيت دعوة من الطلاب ولبيتها ولن تستطيع قوة أن تمنعنى من لقاءهم ما داموا هم يمتلكون الإرادة للدفاع عن قراراتهم..
ولن أستفيض فى حجم الدهشة التى علت وجهى وأنا أستمع لكلمات مليئة بفوران الشباب وجموحه بنبرة حماسة لا يمكن أن تكون لرجل قد تخطى الستين من عمره..وسأكتشف فيما بعد أن هذا الحماس وهذا الشباب ظل محافظاً عليه وكان أكثرنا شباباً وتهوراً وجنوناً فى الكثير من المواقف إلى أن وافته المنية وهذا أيضاّ له مجال آخر للحديث عنه..
المهم ذهب “شاهين”معى للجامعة فى سيارته التى ما زلت أذكر تواضع نوعها ولونها الأبيض المرصع ببقع سوداء هى من أثر تساقط “الدوكو” من على سطحها..
وما أن وصلنا لباب الجامعة حتى هبط شاهين برفقتى ودخلنا البوابة مترجلين ومررنا أمام أفراد الأمن وما أن شاهدوا شاهين حتى أسقط فى أيديهم فلم يتوقعوا أبداً هذا الإقتحام ولم يحضروا أنفسهم للتعامل مع هذا الإحتمال..ودخلنا..
وإذا بآلاف الطلاب المتجمعين أمام القاعة التى أغلقت فى وجوههم يجدون شاهين أمامهم فيتجمهرون حوله ويحملوه وتدوى الهتافات ترج أرجاء الجامعة لتجد إدارة الجامعة نفسها مضطرة لفتح القاعة ودخول شاهين ووراءه الطلاب ويعرض فيلم العصفور الذى تنتهى أحداثه بصرخة بهية”هنحارب..هنحارب” ويصفق الطلاب ويغنون مع الشيخ إمام:-
“مصر يا أمه يا بهيه..يا أم طرحة وجلابية..الزمن شاب وانتى شابه..هو رايح وانتى جايه.. جايه فوق الصعب ماشيه..فات عليكى ليل ومِيه..وإحتمالك هو هو وإبتسامتك هىّ هىّ”.. ويجيئ دورى لتقديم الأستاذ بعد هذه الحماس الجياش لأجد أن الكلمات التى كنت قد حضرتها لتقديمه لا يمكن أن تستوعب الحالة التى أراها وأشعر بها..كنت أنوى أن أقول عنه كلاماً كبيراً وإذا بى لم أنطق إلا بعبارة واحدة قدمته بها..قلت:- “إنه العصفور الذى ما زال يغرد برغم وجود محترفى إغتيال أصوات البلابل..إنه الأستاذ يوسف شاهين”..