الأربعاء 17-10-2012 08:38
تلقيت دعوة ضمن مجموعة فنانين من السيد الرئيس محمد مرسى وقبلتها وذهبت من منطلق أننى ليس بينى وبينه أو بين تيار الإسلام السياسى من أشقائنا فى الوطن أى عداوة ولن تكون -ولا يصح أن تكون- بيننا نحن أبناء الوطن الواحد أى عداوة.. إننا فى أسوأ الأحوال خصوم وفى أحسنها مختلفون..
صحيح أننى أراهم مشروع احتلال لهذا الوطن والتحكم فيه وليس حكمه ولكنهم يرون أن مشروعهم يحمل الخير لمصر على حد تعبيرهم..
إذن نحن مختلفون ولكنى تعودت فى اختلافى مع الآخر أن أسيد منطق أن رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى المختلف معى خطأ يحتمل الصواب، ومن هذه القناعة ذهبت للحديث أمامه عن هذا الخلاف والاختلاف وبالفعل قلت له جزءاً ليس قليلاً منه وهذا ليس موضوع مقالى وقد أكتب فيه لاحقاً وذهبت أيضاً لاعتقادى أن هذه الدعوة جاءت فى توقيت أراه يعبر بامتياز عن إدراك النظام الحاكم ورئيسه أن الفنانين فى هذه اللحظة بحاجة إلى إعادة اعتبار بعد هذه الهجمة الشرسة التى يتعرضون لها من مشايخ يطلقون الفتاوى.. يوجهون الشتائم.. يوزعون الاتهامات ليل نهار على أهل الفن والإبداع.. مما يؤكد أنهم ينظرون للحياة من ظهرها لا من وجهها كما قال «ألبير كامى».
وأعترف أن اللقاء قد جاء أقل كثيراً من توقعاتى.. فلم أر الرئيس يتطرق إلى هذه الهجمة لا من قريب ولا من بعيد والأدهى أنه لم يتطرق حتى لما هو مُلحّ أكثر من هذه القضية مثل الدستور وجمعيته العجيبة أو الحرية ومظاهر التضييق عليها أو العدالة الاجتماعية وحال الفقراء من أسوأ لأسوأ أو المواطنة والاحتقان الطائفى يزداد يوماً بعد يوم.. إلى آخره.
وعندما لم يتطرق الرئيس للهجمة على الفنون فقد اُضطر العديد من الفنانين لتذكيره بما تعرضت له الفنانة إلهام شاهين فعلق أنها كانت مدعوة ولم تأت وعندما أكد الحاضرون أنها لم تدع فقال نصاً (إذن وجب علىّ الحديث إليها هاتفياً) واعتبر الحاضرون من الفنانين أن ذلك ترضية مناسبة إذ إنه لم يتحدث فى الموضوع وقد حاصره وقته المزدحم بالمسئوليات.
حتى هذه الترضية التى اعتقدناها فقد ذهبت أدراج الرياح عندما خرجت الرئاسة علينا بعد اللقاء بساعات بتصريح تعلن فيه أنها لم تتضامن مع إلهام شاهين وأكدت «لم نتضامن مع طرف من الشعب ضد طرف آخر وعلى المتضرر اللجوء للقضاء».
لم نكن ننتظر من الرئيس أن ينتصر لنا بغلق هذه القنوات كما أغلق قناة «الفراعين» التى افترت عليه ولم نكن بحاجة إلى أى إجراء من الحكومة ضد هؤلاء المشايخ.. وكنا عازمين وعارفين أن طريقنا إلى الحصول على حقنا هو القضاء.. ولكن مسئولية الرئيس أن يعلن موقفه فى مثل هذه الأمور، خاصة أن الجناة من حلفائه وينتمون إلى خط قريب من خطه الفكرى والسياسى..
وهذا الإعلان ليس له علاقة بخصومة بين أفراد من شعبه ورعيته ولكنه إعلان ضرورى لوضع الخطوط الفاصلة فى سياسة النظام الجديد تجاه حرية الإبداع.. وهل هناك موقف رسمى لهذا النظام يعبر عن انحيازه وتكريسه لهذه الحرية بحسبانها صلب أى دولة مدنية أم لا؟ ولكنه أبى أن يعلن موقفه مع أنه قد تحدث باستفاضة عن أن مصر مدنية وستظل مدنية.
عموماً لا بأس فنحن قبل هذه الدعوة كنا نعرف أن هذه القضية من القضايا التى لن يقف النظام الجديد من أجل الدفاع عنها، أو توفير وسائل التشجيع اللازمة لها كما تنص دساتيرنا المتعاقبة، وغاية المنى بعد تغيير الظرف والنظام أن تكتفى الدولة بإعلان موقفها وتحديد ضوابطه، انتصاراً منها لمفاهيم الدولة المدنية التى تزعمها.
لا نريد دعماً ولا مساندة لإدراكنا أن للإبداع رجالاً ونساء يحمونه وقادرين على الدفاع عنه ضد كل قوى الجهل والجهالة والتخلف..
والمشكلة أن هذه القوى منذ أن صعد دكتور مرسى لسدة الحكم لم تجد فى أحوال البلاد والعباد التى تزداد غماً وهماً ما يدعوها لأن تتحدث عنه.. وكأننا نعيش فى جنة الله على أرضه ولا ينغص علينا هذه الجنة غير هؤلاء الفنانين الداعرين والعاهرات «على حد وصفهم»..
نرى هؤلاء الدعاة يخصصون جل أوقاتهم لمهاجمة الفنون ويختصرونها فى عدة مشاهد رأوا أنها إفساد للبشر.. ولو سلمنا «وأنا لا أسلم معهم» بأن هذه المشاهد تثير غرائز البشر.. أرى أن ما قدمه الفن طوال المائة عام الأخيرة كان تكريساً لمنظومة قيم قد أنارت الطريق لهذا المجتمع وبدونه لا يمكن تخيل شكل هذا الوطن، بل إنه دون الإسهام الفنى الذى انتصر للحق وللخير وللجمال وللحرية وللعدل عبر تاريخه لا يمكن تخيل حتى شكلنا..
إنهم يختصرون صورة الفنون فى هذه المشاهد ولا ينظرون للصورة كاملة.. فحتى لو سلمنا -وأنا مرة أخرى لا أسلم معهم- أن هذه المشاهد نقطة سوداء فهى فى لوحة كبيرة مترامية الأطراف، لو نظرت إليها بتأمل لن تلحظ هذه النقطة من كثرة بقع النور الموجودة بها.. لماذا لا يرى هؤلاء غير هذه النقطة السوداء؟ -إن كانت سوداء- وكأن كل الفنون لا تتحدث ولا تتحرك من مكانها إلا للحديث عن الجنس وتصوير العرى ولم أجد أحدا منهم يتحدث عن أى إسفاف أو ابتذال آخر غير الذى يتطرق للعرى وللجنس ولجسد المرأة..
لماذا لم يشغلوا أنفسهم ببيان مفاسد أعمال يطلق عليها البعض أعمالاً فنية والفن منها براء، تكرس للتخلف والجهل والقهر والقتل والإفساد ولإدمان المخدرات وللسرقة ولم يتحدثوا عن أى منها؟ أما إذا كانت هناك خمسة سنتيمترات من ساق سيدة ظهرت فى صورة أو فيلم لا بد أن تقوم الدنيا وتقعد، وكأن الأرض كلها ستفسد وسنذهب كلنا إلى التهلكة بسبب هذه اللقطة.. مما يؤكد أنه لا توجد تلفيفة واحدة من تلافيف نخاعهم الشوكى غير مصابة بورم الجنس، وهذا الورم يجعل من هواجسهم كلها جنسية وتسيطر على كيانهم وعقولهم فلا يرون فى الفنون غير هذا الجانب.
ورائعاً كان عباس العقاد ذلك المفكر الإسلامى الذى لا يستطيع هؤلاء أن يزايدوا عليه، فكتاب واحد بل صفحة واحدة من كتبه الإسلامية أكبر «وأبرك» من كل ما أسهموا به فى نصرة ديننا الحنيف.
هذا الكاتب وقف يوما أمام تمثال يونانى لامرأة عارية وفى عينيها مسحة حزن ودمعة شجية، وعندما سئل عما يشعر به قال: لم أشعر بحالة من الشجن مثلما شعرت بها عند توقفى عند ملامح هذه المرأة الحزينة.. اليوم أدركت أكثر ماذا تعنى التراجيديا الإغريقية.. وعندما سألوه ماذا عن جسدها العارى؟ قال: لم أر فيه إلا تعبيرا عن عظمة الخالق الذى خلق من أبدع هذا التمثال..
المدهش أن هؤلاء الدعاة -دعاة الجهل والتخلف- لم نسمع لهم صوتاً من قبل، فهم الذين خرسوا عندما كان الكلام له ضرائب وتحدثوا عندما أصبح الكلام بلا جمارك..
صمتوا وتخاذلوا بينما نطق وصرخ الفنانون بمظالم النظام السابق وفساده وقالوا كلمة حق فى وجه سلطان جائر، بل إن بعض هؤلاء الدعاة كانوا عملاء لمؤسسات النظام الساقط وخانوا الوطن وخالفوا تعاليم الدين بإطلاقهم للفتاوى التى تحرم الخروج على الحاكم، ومنهم من توارى حين اشتعلت ثورة فى البلاد حتى يتبينوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بينما وجدنا الفنانين فى طليعة هذه الثورة، ومنهم من تقدم الصفوف وعرض حياته ومستقبله ومستقبل عائلته للخطر وكان وجودهم شديد الحضور، شديد الندرة فى تاريخ الثورات.
هذا ليس منّاً على أحد فهذا هو وطننا وهذا هو واجبنا وقد أديناه، ولكنى أردت أن أذكر دعاة الجهل والجهالة أننا -نحن فنانى الدعارة والفسق والفجور على حد وصفهم لنا- كنا أول من ستعلق رقابهم على المشانق لو فشلت هذه الثورة أو على أقل تقدير لن يكون لنا مستقبل فى هذا الوطن غير وراء أسوار السجون وكان سينجو الكثير منهم لأنهم وإن شارك بعضهم فلا يعرفهم أحد..
كل ذلك لم يتذكروه مع أن الذكرى تنفع المؤمنين، وكل ما تذكروه بضعة مشاهد مختزلة من هنا وهناك، لا يصح الحكم عليها وهى مجتزأة من سياقها، سواء بالقواعد الحاكمة للفنون أو بالقواعد الحاكمة للفقه الإسلامى الذى تؤكد إحدى قواعده «الحكم على الشىء فرع عن تصوره» بمعنى أنك لا يمكن اجتزاء جملة من مقال أو صفحة من رواية أو مشهد من فيلم أو جزء من لوحة أو قطعة من تمثال، وتستطيع الحكم على هذا العمل، وإن هذا الاجتزاء -كما هو ظلم للعمل الفنى أو الأدبى- هو فى الحقيقة يروج لغرض فى نفس صانعه، هكذا علمنا الفقه الإسلامى الذى ضرب مثل «ولا تقربوا الصلاة» كى يفهم الذين يفقهون، ولكن يبدو أنهم لا يفقهون..
هاجموا الفن والإبداع ناسين أن كل المجتمعات التى ترجو التقدم تحافظ على مبدعيها باعتبارهم يمثلون لهذه المجتمعات زرقاء اليمامة.. يرون ما لا يراه الآخرون ويحملون الرؤى الاستشرافية للمستقبل. إن الفنانين والفئران هم الكائنات الحية الوحيدة التى تستشعر الخطر، ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتلقى بنفسها فى البحر هرباً من السفينة الغارقة، أما الفنانون فإنهم يظلون يقرعون الأجراس ويصرخون حتى ينقذوا السفينة أو يغرقوا معها، والحمدالله أن الكثير من الفنانين قد صرخوا وحذروا ولم يكتفوا، فعندما جاءت ساعة إنقاذ السفينة نزلوا إلى البحر بأجسادهم ليحموا سفينة الوطن بثورة كانوا من أهم وجوهها.
إن الفنانين وكما تعودوا فى محاربة الظلم والقهر والاستبداد والتخلف والجهالة إبان العصر السابق سيواصلون حربهم ونضالهم فى هذا العصر، فهى معركتنا ونحن لها.. ويقيناً منتصرون بإذن الله لأنها حكمته وقدره المحتوم أن البشرية فى تقدم إلى يوم الدين ولن تعود إلى الوراء إلى عصور الظلام.. وأى انتصارات لهذه القوى هى انتصارات مؤقتة وزائلة بحكم حركة التاريخ التى لا تعود للخلف..
ففى عصر الفضاء المفتوح وثورة الاتصالات يصبح واهماً من يعتقد أن باستطاعته أن يكبل الإبداع أو يقف فى طريقه.. خاصة لشعب كان امتيازه وتميزه الأساسى وإسهامه الحضارى عبر التاريخ القديم والحديث هو إسهاما فنيا فى معظمه، ولم يحقق تفرده بين أبناء جلدته البشرية إلا بهذه العبقرية الفنية المتوارثة فى الجين المصرى.
ولم يتحقق تفرده وسط أشقائه العرب إلا بالفن بل إن تعلق وجدان المواطن العربى بمصر صار أمراً بديهياً من جراء ارتباطه بالأغانى والأفلام والمسلسلات المصرية، التى تمكنت أن تصدر منظومة القيم الحاكمة للمجتمع المصرى بعاداته وتقاليده وحتى لهجته، وصارت مصر قريبة بسبب فنها، وصار ارتباطها بأشقائها العرب عضوياً، وكان الفن هو الجسر الوحيد بيننا وبينهم عندما باعدت بيننا الأنظمة والسياسات، ووقت المحن وجدنا العرب كل العرب بجانبنا لأن حكامهم لا يستطيعون أن يقفوا أمام شعوبهم فى حبهم لمصر وانحيازهم لها.
ماذا فعل هؤلاء الدعاة لمصر وللإسلام حتى يصبحوا أوصياء علينا وعلى فننا؟ كل ما فعلوه هو تصدير وجه قبيح للإسلام ينفر لا يقرب، ولدىّ يقين بأن المسلمين الأوائل لو كانوا مثل هؤلاء ما كان الإسلام قد خرج من شبه الجزيرة العربية.. وما جاب الآفاق.
إن الذين يريدون إطفاء طاقة التنوير المصرية فى الحقيقة هم يخنقون روح مصر.. والفنون هى وجدان وروح مصر عبر تاريخها الطويل، ولا أظن أن ذلك وارد، لأنه ضد طبائع الأمور.. لذلك يجب علينا نحن المبدعين ألا نتخاذل أو نتردد أو نتهاون مع من يريد إظلام مصر لأن التاريخ سيصب علينا اللعنات على تفريطنا فى أهم ما نملكه من إرث حضارى وثقافى وفنى.
إن البشرية عبر تاريخها الطويل لم تتطور ولم تتقدم إلا بإسهام الفنون، والحديث عن ذلك يطول لذا سأخصص له المقالات القادمة لعل أحداً منهم يقرأ ثم يفكر ثم يتعقل فيدرك.. والإدراك ومن قبله الإحساس نعمة يفتقدها ذوو القلوب الجافة.